السلام عليكم ورحمة الله
أسترجع الآن في ذاكرتي صورة شاب رأيته ذات مرة في إحدى البرامج التلفزيونية على قناة المجد قبل فترة ليست بالقصيرة ، ولكن الصورة بقيت كما هي محفورة في الذاكرة ....لأنها صورة أكثر من محزنة .....فهي صورة الألم بذاته ، أتذكر جيدا إسم البرنامج فقد كان إسمه (( الجانب المظلم )) ، sad side ، وفي هذا البرنامج روى ذلك الشاب بعضا من مواقف حياته ....وبعدها في آخر اللقاء أفصح عن أمنياته في الحياة ....ويالها من أمنيات ...أمنتيات ممزوجة بلوعة وألم و ....و...و....وكل شيء مظلم في هذه الحياة .
قصة ذلك الشاب طويلة ولكنني سأحاول أن أنقلها لكم باختصار شديد ،..... ذلك الشاب كان كمعظم الشباب الذين تعرفونهم ، يحيا حياته في الإستمتاع ، والجري وراء ملذات الحياة ، ...ولديه عدد لا بأس به من رفقاء السوء (( ككل شبابنا في هذا الوقت )) الذين أنستهم الحياة وملذاتها حقيقة الأمر الذي خلقوا من أجله ((عبادة الله )) ، وقد أصيب هذا الشاب بحادث سيارة فقد على إثره عافيته ، وصار طريحا للفراش ، لا يستطيع تحريك جسده ، ولا حتى يديه ......كانت لديه صعوبة في الكلام ظهرت بوضوح في الحوار الذي أجري معه ، وكان يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة جدا ، فلا يستطيع أن يكمل حتى بعض الجمل القصيرة دون أن يأخذ نفسا بين الكلمات القليلة وبعد جهد جهيد ......
تكلم عن وضعه ، وعن صحته ، والمنظر الذي كان عليه مؤلما جدا حتى لو قال أنه قد أصيب بهذه الحالة البارحة ، فكيف به وقد أخبر بأنه على هكذا حال منذ سنين ..... قال أنه لا يستطيع حتى أن يزيل الغطاء عن وجهه في الليل وهو نائم أو أن يغطي نفسه ، وهل تعرفون من الذي يقوم له بكل صغيرة وكبيرة في حياته وهو على هذه الحال ؟!!!!! (( إنها أمه )) تلك الأم التي لم يكن يعرف قيمتها إلا بعد أن أصابه ما أصابه .... فهل ياترى هي الأفضل أم أولئك الأصدقاء الذين كانوا يجرونه في مهاوي الرذيلة ....؟؟!!
هنا تساؤل آخر يطرح نفسه في هذا السياق : أين أصدقاءه الذين كانوا معه عندما كان بعافيته ، وكانوا يترددون عليه دائما ويحبون مرافقته والمكوث معه ؟؟؟ أين هؤلاء بعد أن اضحى طريح الفراش ؟؟؟؟!!
الإجابة سهلة جداً : لقد اختفى كل هؤلاء الذين كانوا يقومون معه بالفعائل المحرمة بعد أن آل وضع ذاك الشاب إلى ما آل إليه ، هكذا يقول ذلك الشاب ، وما الذي سيفعله به أصدقاء كانوا معه على المعاصي والجري وراء التفاهات ؟؟؟ فهل هؤلاء أصدقاء حقيقيون ؟؟؟!!! الإجابة قطعا (( لا )) ، وقد قال أنهم لم يعودوا يهتموا حتى بالسؤال على صحته أو أحواله ...وما الذي سيفعلونه بشخص طريح بمعنى حاله أسوأ من حال المُقعد ، فحال الطريح أشد سوءاً .
المهم أنه تاب بعد الحادث ، وقد صار داعية رغم صعوبة الكلام عليه وتأثر على يديه الكثير من الشباب ....وهو يحمد الله حمدا كثيرا على نعمه (( تخيلوا حالته ومع ذلك يحمد الله )) فكيف بالكثيرين الذين أمدهم الله بالعافية وبكل شيء ويبقون يسخطون ويلعنون لمجرد أنهم يفتقدون لأشياء كمالية .....
يقول ذلك الشاب مستغرباً : إن الكثير من الناس عندما يشاهدون حالتي الآن يبكون ويتألمون لما عليه وضعي...ولكنني أستغرب كيف لم يبكوا على حالي عندما كانوا يرونني أترك الصلاة وأقوم بالمعاصي رغم أن ذلك الحال أسوأ مما أنا عليه الآن ....
حسنا نأتي الآن لأمنيات ذلك الشاب فقد ذكرها في آخر حديثه ، فكيف تتوقعون أن تكون أمنياته إخواني أخواتي ؟؟؟!!! هل تتوقعون أن يتمنى لو تعود إليه عافيته وويصير كباقي الشباب وبالتالي يسعى وراء طلب الرزق والزواج ....كما هي أمنيات معظم شباب هذا العصر ؟؟؟!!
كلا ، فلم يكن في أمنياته شيئٌ من ذلك كله ...لأنه عرف حقيقة الحياة وفنائها وزوال نعمتها ...
لقد تمنى ثلاث أمنيات وفعلا أبكتني تلك الأمنيات وهي :
1- أن يستطيع الدخول إلى منزله بعد أداء صلوات الأعياد ليحتضن أمه التي لم يعرف قيمتها إلا بعد ما جرى له ما جرى .
2- كان يتمنى أن يقلب صفحات المصحف ليقرأ كلام الله ، فقد صارت تلك أمنية بعيدة المنال بعد أن كانت سهلة وميسرة وفي مقدوره قبل أن يصاب بالحادث ، كما هي سهلة وميسرة بالنسبة لنا الآن ....
3- أن يسجد لله سجدة لا يقوم منها حتى تخرج روحه ،لأنه ذكر أنه كان لا يسجد إلا قليلا عندما كان بعافيته ، وأنه خائف جدا من الآية التي تقول (( يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) خاشعةً أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون (43) )) سورة القلم .
فانظروا إخواني أخواتي إلى الأشياء التي ننعم بها دون أن ندرك قيمتها في الوقت التي ظلت فيه تلك الأشياء بمثابة أمنيات قد يستحيل تحقيقها بالنسبة لأناس كانوا مثلنا لا فرق بيننا وبينهم سوى لحظات أفقدتم تلك النعم ....
عموما الدنيا لازال فيها الخير ، فبعد أن تاب ذلك الشاب أبدله الله بأصدقاء ورفقاء خير من رفقائه ، لأنهم أحبوه في الله وشاركوه في الدعوة إلى الله ...أحبوه حتى وهو طريحا على الفراش ، يأتون إليه ويتفقدون أحواله وينحنون لتقبيل رأسه عندما يأتون لزيارته .....وهذه هي قصة الشاب الذي بكيت لسماع أمنياته التي نمتلكها نحن دون أن نستشعر قيمتها .
اللهم اجعل غيرنا عبرة لنا ولا تجعلنا عبرة لغيرنا .
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين